فصل: المسألة الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}:

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ رَمَضَانُ، لَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَقَدْ أَبْعَدَ؛ لِأَنَّهُ حَدِيثٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ.

.المسألة السَّابِعَةُ: الوصال في الصوم:

ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي الْوِصَالَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِيهِ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ اقْتَضَى وِصَالًا غَيْرَ مَحْدُودٍ لَمَا تَحَصَّلَ لِأَحَدٍ تَقْدِيرُهُ، لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِيهِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْعُرْفِ، أَيْ أَنْ تَصُومُوا الْأَيَّامَ وَتُفْطِرُوا مِنْهَا زَمَنًا مَخْصُوصًا، وَكَانَ عِنْدَهُمْ مُتَعَيِّنًا إمَّا بِالْعُرْفِ الْمُتَقَدِّمِ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ نَصًّا، وَإِمَّا بِبَيَانٍ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَكُونُ الْخِطَابُ مُجْمَلًا، حَتَّى بَيَّنَهُ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

.المسألة الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ}:

لِلْمَرِيضِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَلَّا يُطِيقَ الصَّوْمَ بِحَالٍ، فَعَلَيْهِ الْفِطْرُ وَاجِبًا.
الثَّانِي أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ بِضَرَرٍ وَمَشَقَّةٍ؛ فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْفِطْرُ، وَلَا يَصُومُ إلَّا جَاهِلٌ.
وَقَدْ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَزْدِيُّ، أَنْبَأَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُسْلِمٍ عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ اللَّيْثِيُّ الْحَارِثِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ رَبِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ، حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ النَّسَوِيُّ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي أَبُو حَسَّانَ صُهَيْبُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ: اعْتَلَلْت بِنَيْسَابُورَ عِلَّةً خَفِيفَةً، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَعَادَنِي إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لِي: أَفْطَرْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَقُلْت: نَعَمْ فَقَالَ: خَشِيتُ أَنْ أَضْعُفَ عَنْ قَبُولِ الرُّخْصَةِ قُلْت: أَنْبَأَنَا عَبْدَانُ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْت لِعَطَاءٍ: مِنْ أَيِّ الْمَرَضِ أُفْطِرُ؟ قَالَ: مِنْ أَيِّ مَرَضٍ كَانَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ هَكَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ إِسْحَاقَ، وَهُوَ الثَّالِثُ.
الثَّالِثُ: الْمُسَافِرُ: وَالسَّفَرُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ الِانْكِشَافِ وَالْخُرُوجِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ؛ وَهُوَ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجٍ يَتَكَلَّفُ فِيهِ مُؤْنَةً، وَيَفْصِلُ فِيهِ بُعْدٌ فِي الْمَسَافَةِ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ مِنْ الشَّارِعِ نَصٌّ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِيهِ تَنْبِيهٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الصَّحِيحِ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا».
وَفِي تَقْدِيرِهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسَائِلِ.
وَالْعُمْدَةُ فِيهِ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَثْبُتُ فِي الذِّمِّيَّةِ بِيَقِينٍ، فَلَا بَرَاءَةَ لَهَا إلَّا بِيَقِينٍ مُسْقِطٍ؛ وَقَدْرُ السَّفَرِ مَشْكُوكٌ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ سَفَرًا ظَاهِرًا، فَيَسْقُطُ الْأَصْلُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَبَحْثُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَتِنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالسَّفَرِ عَلِمَتْ الْعَرَبُ ذَلِكَ بِفَضْلِ عِلْمِهَا بِلِسَانِهَا، وَجَرْيِ عَادَتِهَا فِي أَعْمَالِهَا؛ فَلَمَّا جَاءَ الْأَمْرُ اقْتَصَرْنَا فِيهِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْأَمْرِ مَبْنَى الْخِلَافِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: أَقَلُّ السَّفَرِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ».
وَفِي حَدِيثٍ: «وَسَفَرُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» وَفِي آخَرَ وَذَكَرَ تَمَامَهُ؛ فَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ السَّفَرَ يَتَحَقَّقُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ: يَوْمٍ يَتَحَمَّلُ فِيهِ عَنْ أَهْلِهِ، وَيَوْمٍ يَنْزِلُ فِيهِ فِي مُسْتَقَرِّهِ، وَالْيَوْمِ الْأَوْسَطِ هُوَ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ السَّيْرُ الْمُجَرَّدُ، بِتَحَمُّلٍ لَا عَنْ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ، وَنُزُولٍ لَا فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ.
وَقُلْنَا لَهُ: إذَا كَانَ السَّفَرُ مُتَحَقِّقًا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَمَا سَرَدْت فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِثْلُهُ، وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّحَمُّلِ عَنْ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ فِي تَحْقِيقِ السَّفَرِ عَلَى الْمَبِيتِ فِي غَيْرِ الْمَنْزِلِ، ثُمَّ التَّحْدِيدُ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا، أَوْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا مَرَاحِلُ لَا تُدْرَكُ بِتَحْقِيقٍ أَبَدًا، وَإِنَّمَا هِيَ ظُنُونٌ؛ فَرَجُلٌ احْتَاطَ وَزَادَ، وَرَجُلٌ تَرَخَّصَ، وَرَجُلٌ تَقَصَّرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
......

.المسألة الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}:

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا الْقَوْلُ مِنْ لَطِيفِ الْفَصَاحَةِ، لِأَنَّ تَقْرِيرَهُ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} تَقْدِيرُهُ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ.
وَقَدْ عُزِيَ إلَى قَوْمٍ: إنْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ قَضَاهُ، صَامَهُ أَوْ أَفْطَرَهُ، وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ إلَّا ضُعَفَاءُ الْأَعَاجِمِ؛ فَإِنَّ جَزَالَةَ الْقَوْلِ وَقُوَّةَ الْفَصَاحَةِ تَقْتَضِي فَأَفْطَرَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» قَوْلًا وَفِعْلًا.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ.

.المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}:

يُعْطِي بِظَاهِرِهِ قَضَاءَ الصَّوْمِ مُتَفَرِّقًا، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ.
وَإِنَّمَا وَجَبَ التَّتَابُعُ فِي الشَّهْرِ لِكَوْنِهِ مُعَيَّنًا، وَقَدْ عُدِمَ التَّعْيِينُ فِي الْقَضَاءِ فَجَازَ بِكُلِّ حَالٍ.

.المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}:

يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِزَمَانٍ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّرَاخِيَ، فَإِنَّ اللَّفْظَ مُسْتَرْسِلٌ عَلَى الْأَزْمِنَةِ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: إنْ كَانَ لَيَكُونَ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ قَضَاءَهُ إلَّا فِي شَعْبَانَ لِلشُّغْلِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَكَانَتْ تَصُومُ بِصِيَامِهِ؛ إذْ كَانَ صَوْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مَا كَانَ فِي شَعْبَانَ.

.المسألة الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}:

وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ قِرَاءَاتٌ وَتَأْوِيلَاتٌ وَاخْتِلَافَاتٌ وَهِيَ بَيْضَةُ الْعُقْرِ.
قُرِئَ يُطِيقُونَهُ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَقُرِئَ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالْيَاءِ وَتَشْدِيدِهِمَا، وَقُرِئَ كَذَلِكَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ، لَكِنَّ الْأُولَى مَضْمُومَةٌ، وَقُرِئَ يَطُوقُونَهُ، وَالْقِرَاءَةُ هِيَ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى، وَمَا وَرَاءَهَا وَإِنْ رُوِيَ وَأُسْنِدَ فَهِيَ شَوَاذٌّ، وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا حُكْمٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا أَصْلٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ بَيَانًا شَافِيًا.

.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: في بيان نسخ الآية:

أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ كَذَلِكَ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَلَمَةَ، وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُمَا.
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا لَزِمَهُ الصَّوْمُ، وَمَنْ كَانَ مُسَافِرًا أَوْ مَرِيضًا فَلَا صَوْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا وَلَزِمَهُ الصَّوْمُ، وَأَرَادَ تَرْكَهُ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مُطْلَقًا.
وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَرَّرَهُ، وَلَوْلَا تَجْدِيدُ الْفَرْضِ فِيهِ وَتَحْدِيدُهُ وَتَأْكِيدُهُ مَا كَانَ لِتَكْرَارِ ذَلِكَ فَائِدَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَهَذَا مُنْتَزَعٌ عَنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فَلْيُنْظَرْ فِيهِ.

.المسألة الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}:

فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا مَنْ زَادَ عَلَى طَعَامِ مِسْكِينٍ، وَقِيلَ: مَنْ صَامَ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} مَعْنَاهُ الصَّوْمُ خَيْرٌ مِنْ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، وَخَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ.
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّوْمَ الْفَرْضَ خَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ النَّفْلِ، وَالصَّدَقَةَ النَّفَلَ خَيْرٌ مِنْ الصَّوْمِ النَّفْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّوْمَ الْفَرْضَ خَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ الَّذِي هُوَ بَدَلُهُ، وَهُوَ فَرْضٌ؛ لِأَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ.
قُلْنَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} مُرْتَبِطٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالتَّأْوِيلَاتِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ مِنْ إطْعَامِكُمْ الْفَرْضَ وَتَطَوُّعِهِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ مِنْ إطْعَامِكُمْ الْبَدَلَ لَهُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ تَطَوُّعِكُمْ الزَّائِدِ عَلَيْهِ وَبَدَلِهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ الزَّائِدِ عَلَيْهِ، فَرُبَّمَا رَغَّبَ فِي تَكْثِيرِ الْإِطْعَامِ، وَتَرْكِ الصِّيَامِ، فَأَعْلَمَ أَنَّ الصَّوْمَ خَيْرٌ لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُقَالُ: الْفَرْضُ خَيْرٌ مِنْ التَّطَوُّعِ، وَلَا يَسْتَوِيَانِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَحُكْمُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي أَصْلِ التَّخْيِيرِ، ثُمَّ يَتَفَاضَلَا فِيهِ؟ قُلْنَا: الصَّوْمُ خَيْرٌ مِنْ الْفِطْرِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، فَصَارَ فِيهِ وَصْفٌ مِنْ النَّفْلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: تَقْدِيمُهُ أَوْ فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ.

.المسألة السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الصَّوْمُ خَيْرٌ مِنْ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ:

قَالَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ، وَلِعُلَمَائِنَا مِثْلُهُ، وَلَهُمْ قَوْلٌ ثَالِثٌ: إنَّ الْفِطْرَ فِي الْغَزْوِ أَفْضَلُ؛ وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ».
وَصَحَّ أَنَّهُ كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ الْفِطْرَ فِي الْغَزْوِ أَفْضَلُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَأَفْطِرُوا».
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ، لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}؛ وَأَمَّا فِطْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: «إنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُونَ فِطْرَك، فَأَفْطَرَ».
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فَلَهُ الْفِطْرُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، مِنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ فَذَلِكَ حَسَنٌ، وَمَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأَفْطَرَ فَذَلِكَ حَسَنٌ.
فَأَمَّا عِنْدَ الْقُرْبِ مِنْ الْعَدُوِّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي اسْتِحْبَابِ الْفِطْرِ اخْتِلَافٌ، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَبِهِ أَقُولُ. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [183].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ} فرض: {عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
واعلم أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة، والفطر المستقيمة شرعه الله لعباده رحمة لهم، وإحسانًا إليهم، وحميّة، وجنّة..! فإن المقصود من الصيام: حبس النفس عن الشهوات، وفطمها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتسعد بطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكوا به مما فيه حياتها الأبدية..!. ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحها، وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنة المجاهدين، ورياضة الأبرار والمقربين وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئًا، إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها؛ إيثارًا لمحبة الله ومرضاته، وهو سرّ بين العبد وربّه، ولا يطلع عليه سواه.
والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة. وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمر لا يطلع عليه بشر. وذلك حقيقة الصوم..! وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة. وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها. واستفراغ المواد الردية المانعة له من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها. ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات. فهو من أكبر العون على التقوى، كما قال تعالى في تتمة الآية: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصوم جنة».
وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه بالصيام، وجعله وجاء هذه الشهوة. وكان هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أكمل الهدى، وأعظم تحصيلًا للمقصود، وأسهله على النفوس. ولما كان فطم النفس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة؛ لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة، وألفت أوامر القرآن، فنقلت إليه بالتدريج. وكان فرضه السنة الثانية من الهجرة. فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسعة رمضانات. وفرض أولًا على وجه التخيير بينه وبين أن يطعم عن كل يوم مسكينًا. ثم نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم، وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة- إذا لم يطيقا الصيام- فإنهما يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكينًا- كما سيأتي بيانه- وكان للصوم رتب ثلاث:
أحدها: إيجابه بوصف التخيير.
والثانية: تحتمه، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة، فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة، وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة..! كما أفاده ابن القيم في زاد المعاد.
وقوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} تأكيد للحكم، وترغيب فيه، وتطييب لأنفس المخاطبين به، فإن الشاق إذا عمّ سهل عمله. والمماثلة إنما هي في أصل الوجوب لا في الوقت والمقدار، وفيه دليل على أن الصوم عبادة قديمة.
وفي التوراة، سفر عَزْرا، الأصحاح الثاني:
(21) وناديت هناك بصوم على نهر أهوا، لكي نتذلل أمام إلهنا لنطلب منه طريقًا مستقيمة لنا ولأطفالنا ولكل مالنا.
وفي سفر إشعياء، الأصحاح الثامن والخمسون ص 1062:
(3) يقولون: لماذا صمنا ولم ننظر. ذلّلنا أنفسنا ولم نلاحظ. ها إنكم في يوم صومكم توجدون مسرّة وبكل أشغالكم تُسخَّرون.
(4) ها إنكم للخصومة والنزاع تصومون ولتضربوا بلكمةٍ الشر. لستم تصومون، كما اليوم، لتسميع صوتكم في العلاء.
(5) أمثل هذا يكون صوم أختاره، يومًا يذلل الإِنْسَاْن فيه نفسه، يحنى كالأسلة رأسه، ويفرش تحته مسحًا ورمادًا. هل تسمي هذا صومًا ويومًا مقبولًا للرب؟... إلخ.
وفي سفر يوئيل، الأصحاح الأول، ص 1299:
(14) قدّسوا صومًا.
وفي الأصحاح الثاني، ص 1300:
(12) ولكن الآن يقول الرب: ارجعوا إليّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح.
(13) ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم، وارجعوا إلى الرب إلهكم؛ لأنه رءوف رحيم بطيء الغضب وكثير الرأفة.
(15).. قدسوا صومًا نادوا باعتكاف.
(16) اجمعوا الشعب قدسوا الجماعة.
وفي سفر زكرياء، الأصحاح الثامن ص 1347:
(19) هكذا قال رب الجنود: إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجًا وفرحًا وأعيادًا طيبة. فأحبوا الحق والسلام.
وفي إنجيل متى، الأصحاح السادس ص 11:
(17) وأما أنت فمتى صمت فادهُن رأسك واغسل وجهك.
(18) لكي لا تظهر للناس صائمًا، بل لأبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية.
الأصحاح السابع عشر ص 32:
لما رأى عيسى عليه الصلاة والسلام فتًى وأخرج منه الشيطان قال لأصحابه:
(21) وأما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم.
وفي الأصحاح الرابع ص 6:
(2) فبعد ما صام أربعين نهارًا وأربعين ليلة جاع أخيرًا أي: المسيح عليه السلام.
وفي رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس، الأصحاح السادس ص 295:
(4) بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدّام الله في صبر كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات.
(5) في ضربات، في سجون، في اضطرابات، في أتعاب، في أسهار، في أصوام.
وفي الأصحاح الحادي عشر ص 301:
(27) في تعب وكدّ، في أسهار مرارًا كثيرة، في جوع وعطش، في أصوام مرارًا كثيرة، في برد وعري.
هذا، ومتى أطلق الصوم في كل شريعة، فلا يقصد به إلا الامتناع عن الأكل كل النهار إلى المساء، لا مجرد إبدال طعام بطعام.
وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: تجعلون بينكم وبين سخطه تعالى وقاية بالمسارعة إليه، والمواظبة عليه، رجاء لرضاه تعالى؛ فإن الصوم يكسر الشهوة، فيقمع الهوى، فيردع عن مواقعة السوء. اهـ.